تفسير العلامه محمد بن عثيمين رحمه الله:
{أفرءيتم ما تحرثون أءنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} أي: أخبروني أيها المكذبون بالبعث عن الذي تزرعونه بالحرث: هل أنتم الذين تخرجونه زرعاً بعد الحب أم نحن الزارعون؟ الجواب: بل أنت يا ربنا، أنت الذي تزرعه، أي تنبته حتى يكون زرعاً، كما قال - جل وعلا -: {إن الله فالق الحب والنوى} فلا أحد يستطيع أن يفلق هذه الحبة حتى تكون زرعاً، ولا هذه النواة حتى تكون نخلاً، إلا الله - عز وجل - {لو نشاء لجعلناه حطاماً} ولم يقل - عز وجل - لو نشاء لم نخرجه بل قال: {لجعلناه حطاماً} أي: بعد أن يخرج ويكون زرعاً وتتعلق به النفوس يجعله الله تعالى حطاماً، وهذا أشد ما يكون سبباً للحزن والأسى؛ لأن الشيء قبل أن يخرج لا تتعلق به النفوس، فإذا خرج وصار زرعاً ثم سلط الله عليهم آفة، فكان حطاماً، أي: محطوماً لا فائدة منه، فهو أشد حسرة {فظلتم تفكهون } أي: تتفكهون بالكلام تريدون أن تذهبوا الحزن عنكم، فتقولون {إنا لمغرمون } أي لحقنا الغرم بهذا الزرع الذي صار حطاماً، ثم تستأنفون فتقولون: {بل نحن محرومون} أي: حرمنا هذا الزرع، وصار حطاماً ففقدناه، ثم انتقل الله - عز وجل - إلى مادة أخرى، وهي مادة الحياة، وهي الماء فقال: {أفرءيتم الماء الذي تشربون } أي: أخبرونا عنه من الذي خلقه؟ من الذي أوجده {أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون }؟ والجواب: بل أنت يا ربنا، والمعنى: هل أنتم أنزلتم الماء الذي تشربونه من المزن أي من السحاب أم نحن المنزلون؟ الجواب: هو الله - عز وجل -، لأنه يرسل إلينا السحاب فينزل المطر فمنه ما يبقى على الأرض، وما شربته الأرض يسلكه الله تعالى ينابيع في الأرض، ويستخرج من الآبار، ويجري من العيون، فأصل الماء الذي نشرب من المزن، من السحاب، ولذلك إذا قلَّ المطر في بعض الجهات قل الماء وغار، واحتاج الناس إلى الماء {لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون } أي: جعلناه مالحاً، كريه الطعم لا يمكن أن يشرب، وهنا يقول: {لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون } ولم يقل: لو نشاء لغورناه، أو منعنا إنزاله؛ لأن كونهم ينظرون إلى الماء رأي العين ولكن لا يمكنهم شربه، أشد حسرة مما لو لم يكن موجوداً، والله - عز وجل - يريد أن يتحداهم بما هو أعظم شيء في حسرة نفوسهم {فلولا تشكرون } أي فهلا تشكرون الله - عز وجل - على إنزاله من المزن، وعلى كونه سائغاً عذباً لذيذ الطعم سريع الهضم، ثم انتقل الله تعالى إلى أمر ثالث يصلح به الطعام والشراب وهو النار، فقال: {أفرءيتم النار التى تورون } أي: توقدون {أءنتم أنشأتم شجرتهآ أم نحن المنشئون } والجواب: بل أنت يا ربنا، وشجرة النار هي شجر معروف الحجاز، وربما يكون معروفاً غيره، يسمى المرخ والعفار، وهذا الشجر له خاصية إذا ضرب بالمرو أو بشيء ينقدح مع المماسة، اشتعل ناراً يوقد منه وهو معروف، ولهذا يقال :
في كل شجر النار واستنجد المرخ والعفار
يعني صار أعظمها، هذه النار التي نوقدها، ونطبخ عليها طعامنا، ونسخن مياهنا وننتفع بها أنشأها الله عز وجل {نحن جعلناها تذكرةً} أي: تذكر هذه النار بنار الآخرة، مع أن نار الآخرة فضلت بتسعة وستين جزءاً على نار الدنيا كلها، لما فيها من النيران الحارة الشديدة {ومتاعا للمقوين } أي: للمسافرين يتمتعون بالنار بالتدفئة، والدلالة على المكان، لأنهم في ذلك الوقت، وإلى وقت قريب كان الناس يستدلون على الأمكنة بنار يضعونها على مكان مرتفع تهدي الضال، ويضرب المثل في الدلالة بالعلم عليه النار، كما قالت الخنساء ترثي أخاها صخراً:
وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
{فسبح باسم ربك العظيم } أي: سبح الله - عز وجل - بهذا الاسم، فقل: سبحان ربي العظيم، والتسبيح يعني أن الله تعالى منزه عن كل نقص وعيب، فإذا قلت: سبحان الله، فالمعنى أني أنزهك يا ربي من كل نقص وعيب، وقوله: {العظيم } أي: ذو العظمة البالغة، ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «اجعلوها في ركوعكم». ولما نزلت {سبح اسم ربك الأَعلى } قال: «اجعلوها في سجودكم» (10)، ولهذا ينبغي للإنسان إذا كان يصلي وقال: سبحان ربي العظيم. أن يستحضر أمر الله في قوله: {فسبح باسم ربك العظيم } وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «اجعلوها في ركوعكم» حتى يجمع بين الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.